20 - 10 - 2024

سرنديب  (1) قصة قصيرة لآمال رتيب

سرنديب  (1) قصة قصيرة لآمال رتيب

برد يناير القارس لم يترك لها مجالا إلا ان تتكور كما حجر كبير تلفها ثلاث بطانيات وأسفلها واحدة، وبينهما تطبق على يديها وتطوي رأسها علها تأتي بقبس من دفء، يبدو انها استسلمت أخيرا للنوم المفاجئ، فلم تعد تسمع ذلك الصوت داخلها، لم تعد تفكر، أو لعلها تفكر في ظلمة الليل وسكينة النوم٬ يا الله على هذه الليالي التي تنسحب روحها في غفلة منها تغادر جسدها المتكور سويعات الليل لتلتقي به عادة قبل أنفاس الفجر٬ ولكن هذه المرة لا تعرف ماذا أصابها، تشعر تماما بما يجري ولكنها لا تقوى على أن توقف أو تعدل شيئا من أمرها تنقاد كشاة وديعة إلى الذبح بدأت ترتفع شيئا فشيئا عن الأرض.

 تعشق التحليق حتى لو كان خارج الإطار٬ يدها اليسرى ممدودة باتجاه النيل وهذا التشكيل الذي يمثلها وربما يكون روحها ينساق خلف اليد٬ النيل مظلم جدا٬ كتلة من طين أزرق لزج تتحرك يمنة ويسارا٬ مقابل فندق الماريوت القديم بدأت تهبط قليلا ولم تلامس الأرض٬ هذا هو المكان الذي أشار إليه السيد نويصر في كلامه معها صباح أمس الأول٬ لماذا يباغتها الان؟ طردت الفكرة ولعنت أبوه ألف مرة وقررت ألا تذهب إلى مسجد حرس الحدود مرة أخرى٬ ولكن  لماذا تقف في المكان ذاته الآن٬ يطل عليها شبح بوجهه النحيف وحركة عينيه المريبة ويده التي لا تتوقف عن تصفيف لحيته إلى أسفل كأنه يتوعد طيلة الوقت٬ لم يرحب ولم يبتسم تلك الابتسامة التي تصيبها بالمغص كلما التقته٬ بالتأكيد أنه ليس لقاء الأرواح٬ ربما تناديها أمها فتستفيق وتعود من حيث أتت أو خطوات أبيها نحو الحمام ولومه لترك نور الصالة مضاءً يجعلها تهرع لإطفاء اللمبة٬ والفرار من ظلام من يلتقيها ولكن شيئا من هذا لم يحدث.

ناداها باسمها..إيمان ..نظرت إليه نظرة غاضبة وأشاحت بوجهها ولكنه لم يعرها انتباها ولكن أشار إلى النيل وجدت نفسها تقف فوق الماء لم تستطع الطيران والتحليق بعيدا إلى عوالمها التي تكتشفها في بعض الليالي٬ ولكنها رأسيا نزلت إلى عمق المياه وكأنها استقلت أحد المصاعد  ربما ثلاث أو أربعة أدوار إلى الأسفل٬

شعاع خفي يضيء المكان فلا ظلمة ولا ظلام ولا أثر لقبضة السيد على يدها التي كادت تزهق روحها وهو ممسك بها وهي تحاول محاولات بائسة أن تفر منه٬ وجوه غريبة على أجسام أغرب رؤوس بعين واحدة وأخرى بثلاث٬ لماذا تجذبها العيون ليس هذا وقته الآن أن تحللي يا إيمان جزء جديد من فيلم الوحوش لا تهذي٬ وأنظري ماذا تجدي٬ تماثيل كثيرة تصطف في الردهة النساء في جانب والتي تشبه الرجال على الجانب الآخر وكل منهم يمد يده ليلامس من يقابله ولكن لا يحصل على هذه اللمسة ابدا ، وتظل نظرة الشغف معلقة بين يد ويد لا تيأس وتعيد الكرة من جديد أما الجالسين أمام المائدة فيأكلون ويأكلون ولا يشبعون٬ كادت تتعثر في أحد المارين أو ظنت أنه سيقطع رأسها بفأسه التي لا تتوقف عن ضرب الأرض ولكنه لم ينظر إليها حتى ولم تستقم قامته، اطمأنت على رأسها ويديها ورجليها الحمد لله كل عضو في مكانه .. ولكن ماذا يفلح هذا الأبله في هذه الأرض البلورية يحفر النيل من آخره ليس وقته هذه الأفكار وفي سرها.. "نادي يا ماما" وأين أنت يا أبي٬ لم يكن في هذا المكان بابا ولا ماما.

نبهها صوت أجش .. تقدمي وأشار إلى السيد نويصر أن ينصرف إلى جواره مرضعات تركن أثدائهن يلعق بها صغار دون حراك أو احتضان لصغير وكما كل شيء في المكان..لا توقف باغتها بقوله أهلا تأخرتِ .

ردت : عادة اصل في موعدي أو قبله قليلا أدارت رأسها يمينا ويسارا تبحث عن ساعة لتعرف كم تأخرت

فقال لها: ما تبحثين عنه ليس له وجود بيننا٬ تحاول أن تتماسك وتبدو ساخرة كعادتها سألها: هل أعجبك المكان؟

فردت: "إن سرنديب على حسنها يسكنها قوم قباح الوجوه" فاجئه ردها ويبدو أنه أغضبه قليلا وقال لها:  شكرا على إطراءك ليس إطراء ولا ذما .. إنها الحقيقة التي أراها أتكأ على يد الكرسي الفخم الذي يجلس عليه وقال لها بلهجة المنتصر: لو تعرفين أنك ستكونين واحدة منا لكنت بحثتِ عن بيت شعر آخر يليق بجمالك .

ردت باستهجان: وما الذي يجعلني واحدة منكم اعتدل في جلسته وقال لها بنبرة مفاخرة: أنا وبطريقتها المعتادة قالت له: ومن أنت؟ أنا لا أعرفك كما أنك.. لم يدعها تكمل جملتها وقال لها بعد أن مال برأسه قليلا إلى الأمام: أنا أعرفك جيدا أكثر مما تعرفين عن نفسك وربما إجابتي هذه ردا على سؤالك التالي.. "لماذا أنا هنا؟" فعلا..هذه أول مرة تتكلمين فيها مع أحد وأنت في هذه الحالة.

هزت رأسها بالإيجاب قال لها متخذا دور المعلم: لا ليست هذه المرة الأولى لكنها المرة التي ستدركين فيها ما يحدث٬ وما المطلوب مني تحديدا.. ردت بشيء من العصبية التي أفرزتها المشاهد المتكررة حولها  أشار إلى صدرها وضعت يدها على صدرها بحركة لا إرادية قال لها .. لا. هناك سؤال قبل ذلك. ما هو؟ لماذا أنتِ؟ نعم.. لماذا أنا؟ وماذا تريدون أن تفعلوا بي؟ نريد طفلا جديدا.. هذا باختصار.

أشارت إلى الأطفال الذين يحيطون به: أرى المجموعة مكتملة وربما تحتاجون إلى تنظيم وبلهجة أشد حدة قالت: أسمع.. لست ممن يؤمنون بتزاوج عالمنا وعالمكم قال لها باستهزاء وماذا تعرفين عن عالمنا؟ وما أدراكِ أننا من عوالم مختلفة

"الله ياخدك يا سيد الزفت".. قالتها في سرها لاعنة السيد نويصر إمام مسجد حرس الحدود ولكنه رد على خاطرها: السيد نويصر مجرد خادم ضعيف يتلهى بصغائر الأمور ويظن أن له مواهب وكرامات دعينا منه كان مجرد وسيلة لتصلي إلينا عفوا.. تقصد وسيلة لتصلوا إليّ أنا لم أسعى أبدا إليكم. ليس هذا هو المهم.. المهم أنك هنا الآن. لن يستمر وجودي طويلا سوف أذهب إلى حيث أتيت. هذه واحدة من اسباب مجيئك.. العناد لا أحد يستطيع أن يكرهني على فعل شيء لا أريده وهذه الثانية لا تحاول.. فضلا.. قضي الأمر.

تعلمي الصبر والانصات وهل بما لديك من قراءة الأفكار والمعرفة ببواطن الأمور لم تعرف أن سيد هذا كان له نفس طلبك الح.......لم يدعها تكمل وقال: ونال عقابه لا تضيع وقتك معي. هناك من يسهرن الليالي ويطلقن البخور لنوال ما تطلبه. ولكننا لا نريد من يسعى إلينا. وهؤلاء جميعهن نتاج سعيكم؟! قالتها مشيرة باستهزاء إلى النسوة الملتفات حوله. قطب حاجبيه ورفع يده وأشاح بوجهه وقال بنفس النبرة الحادة التي تليق تماما بصوته الأجش: لن أريك الوجه الآخر الآن ولكن سأتركك تفكري ولنا عودة قريبة. أعدك أنني لن أريك وجهي هذا الذي أحمد الله أن ليس لي غيره.

موجة باردة تسحبها إلى الخارج. وكل ما في المكان على نفس الحالة لا تتغير ولا تتبدل. شعرت بغثيان تريد أن تفرغ كل ما في معدتها هرعت إلى الحمام بعد أن أضاءت اللمبة الخارجية صوت أبيها يعلو: من فتح النور؟ استفرغت كل ما في جوفها حتى كادت تخرج عينيها من مكانهما. وجهها تلبد وامتلأ بتلك النقط الحمراء من أثر القيء غسلت وجهها ومضمضت فمها. أعاد أبوها السؤال وهو على سريره تحت اللحاف الذي يلف نفسه به ويترك فقط رأسه خارجه ولكن بلهجة أكثر حدة أعاد السؤال. حاولت أن تنطق وتسترجع صوتها "أنا يا بابا"٬ وتساءلت أمها: أنتِ؟

نعم أنا.. صوتها الخفيض يرد بألم٬ "ليه كده ليه".. ردت أمها التي هرعت إليها

فركت أمها عينيها وأمسكت "كنكة" صغيرة أعمل لك شوية نعناع يدفوا معدتك ، الجو بارد وأنت ما بتسمعيش الكلام.

حاضر يا ماما .. حاضر .. ها أسمع الكلام. ولكن أي كلام ستسمعه؟

جلست على سريرها ترتعد من البرد قدمت لها أمها كوب النعناع المغلي

لم أضع فيه السكر. "أشربيه وهو ساخن يدفيكي" شكرا يا ماما .. ربنا يخليكي لي

لم تستطع أن تمسك الكوب من الرعشة التي أصابتها ، خافت الأم أن تسكب النعناع الساخن عليها ، فقامت من أمامها وأحضرت كوبا آخر وبدأت تنقص من هذا لتضع في ذاك وتسقيها قليلا قليلا. استسلمت إيمان للنوم وغطتها أمها جيدا. ولكن لم تتركها إنما تمددت تحت قدميها التي ارتفعت حرارتها فوق 40. بدأت الأم تتمتم.. يتسلل صوتها بصعوبة إلى أذني إيمان التي لا تريد أن تستسلم للنوم فترى ما رأت مرة أخرى. ولكن النعناع مخدر طبيعي يصلح دائما في مثل هذه الحالات...